قد يعترض معترض على كلام المصنف السابق بقول الله تبارك وتعالى: ((
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي))[الأعراف:144] وذلك يدل على أن الله تعالى اصطفى موسى على الناس برسالاته وبكلامه، فيكون الكلام مختصاً به!
وقد أجاب عن هذا الإشكال الحافظ
ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية، فقال رحمه الله (2/256): "يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه".
فموسى عليه السلام -كما هو واضح - قد أرسل الله تبارك وتعالى رسلاً من قبله ومن بعده، فلا اختصاص في الرسالة، وأما كلام الله لموسى عليه السلام فقد يظهر فيه الاختصاص، لكنه قد ثبت أن الله تعالى كلم محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ومن الأدلة على ذلك: ظواهر الأحاديث الدالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه ربه ليلة الإسراء، وهي أحاديث كثيرة متواترة، ولا سيما في مراجعته لربه عز وجل في موضوع الصلاة، فإنه كان يتردد بين ربه عز وجل وبين موسى حتى خففها من خمسين إلى خمس صلوات، وهو في كل مرة يرجع ما بين موسى عليه الصلاة والسلام إلى ربه عز وجل، حتى قضى الله تبارك وتعالى الأمر الذي لا نقض له ولا معقب لحكمه فيه، والظاهر من الأدلة أن الكلام كان بغير واسطة، وقد سبق عرضها بالتفصيل.
ومما يستدل به أيضاً على ذلك أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يختلفوا في هذه المسألة، ولم تشكل عليهم كما أشكل عليهم موضوع الرؤية؛ فاختلفوا هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أولم يره؛ لكنهم لم يختلفوا في مسألة الكلام، وأن ربه تبارك وتعالى قد كلمه وخاطبه؛ فدل ذلك على أن هذا الأمر معلوم لديهم ولم يجر فيه إشكال بينهم.
ولا ريب أن مقام الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من مقام التكليم والتجلي لموسى عليه الصلاة والسلام!
ولهذا فإن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى حين ذكر الكلام السابق قال: "ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين؛ ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين؛ والذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة، وأتباعه أكثر من أتباع الأنبياء كلهم، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل، ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام" فبعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل يأتي أبوه إبراهيم عليه السلام الذي يُشبهه صلى الله عليه وسلم حتى في الخلقة؛ ولهذا قال في الحديث: {وأما إبراهيم فصاحبكم} أي: فانظروا إلى صاحبكم لتروا شبهه، فخلقته كخلقته صلى الله عليه وسلم، والثالث بعد إبراهيم عليه السلام في الفضل موسى صلوات الله وسلامه عليه، لما له من المنزلة والفضل العظيم، وسبق في حديث الإسراء أن موسى عليه الصلاة والسلام بكى لما رأى درجة النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، فهؤلاء الثلاثة هم أفضل الخلق بهذا الترتيب.